Index   Back Top Print

[ AR  - DE  - EN  - ES  - FR  - IT  - PL  - PT  - ZH_CN  - ZH_TW ]

رسالة قداسة البابا فرنسيس

في مناسبة اليوم العالمي التاسع والخمسين

للصّلاة من أجل الدعوات 2022

مدعوون لبناء الأسرة البشريّة

 

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،

ما زالت رياح الحرب والقمع الباردة تهب علينا في هذه الأيام، ومعها نشهد غالبًا ظواهر الاستقطاب، ونحن، بكوننا كنيسة بدأنا مسيرة سينوديّة: لأنّنا نشعر بالحاجة الملّحة إلى السير معًا بتنمية أبعاد الإصغاء والمشاركة والمقاسمة مع الآخرين. مع جميع الرجال والنساء ذوي النوايا الحسنة، نريد أن نساهم في بناء الأسرة البشريّة، وتضميد جراحها وتوجيهها نحو مستقبل أفضل. من هذا المنظور، في مناسبة اليوم العالمي التاسع والخمسين للصّلاة من أجل الدعوات، أودّ أن أتأمّل معكم في المعنى الواسع ”للدعوة“، في سياق كنيسة سينوديّة تصغي إلى الله وإلى العالم.

 

مدعوون إلى أن نكون جميعًا حاملي الرّسالة

المسيرة السينوديّة، أي السير معًا، هي دعوة الكنيسة الأساسيّة، وفي هذا الأفق فقط يمكن أن نكتشف ونقيّم الدعوات والمواهب والخدمات المختلفة. في الوقت نفسه، نَعلَم أنّ الكنيسة موجودة لحمل البشارة، فهي تخرج من ذاتها وتنثر بذرة الإنجيل في التاريخ. لذلك، فإنّ هذه الرّسالة ممكنة بالتّحديد بتضافر جهود جميع المجالات الرّعويّة، وقبل ذلك، بإشراك جميع تلاميذ الرّبّ يسوع في العمل نفسه. في الواقع، "كلّ عضو في شعب الله، أصبح بالمعمودية التي نالها، تلميذًا مرسلًا (راجع متى 28، 19). كلّ معمَّد، مهما كانت وظيفته في الكنيسة، ومستوى تنشئته الإيمانيّة، هو حامل نشيط للبشارة" (الإرشاد الرسولي، فرح الإنجيل، 120). يجب أن نحذر من العقليّة التي تفصل بين الكهنة والعلمانيّين، فتعتبر الكهنة حاملي الرّسالة والعلمانيّين منفذين لها. علينا أن نحمل الرّسالة المسيحيّة معًا، بكوننا شعب الله الواحد، علمانيّين ورعاة معًا. الكنيسة كلّها جماعة مبشِّرة.

 

مدعوون إلى أن نكون حراسًا بعضنا لبعض وللخليقة

ينبغي ألّا تُفهم كلمة ”دعوة“ بالمعنى الضيّق، الذي يشير فقط إلى الذين يتبعون الرّبّ يسوع في طريق تكريس خاصّ. كلّنا مدعوون إلى المشاركة في رسالة المسيح لإعادة توحيد البشريّة المشتّتة ولمصالحتها مع الله. وبوجه عام، كلّ إنسان، حتى قبل أن يلتقيَ المسيح ويقبل الإيمان المسيحيّ، يمنحه الله مع عطية الحياة، دعوة أساسيّة: كلّ واحد منا خليقة، أرادنا الله وأحبّنا، كلّ واحد منا فكَّر الله فينا فكرًا فريدًا وخاصًا، وهذه الشرارة الإلهيّة، التي تسكن قلب كلّ رجل وكلّ امرأة، نحن مدعوون إلى أن ننميها في مسيرة حياتنا، وأن نساهم في تنمية إنسانيّة ينعشها الحبّ والقبول المتبادل. نحن مدعوون إلى أن نكون حراسًا بعضنا لبعض، وأن نبني أواصر التوافق والمقاسمة مع الآخر، وأن نعتني بجراح الخليقة حتى لا يتلف جمالها. باختصار، أن نكون أسرة واحدة في بيت الخليقة المشترك العجيب، في تنوّع وانسجام عناصره. بهذا المعنى الواسع، ”الدعوة“ ليست فقط للأفراد، بل هي أيضًا للشعوب والجماعات والمجموعات من مختلف الأنواع.

 

مدعوون إلى قبول نظرة الله

في هذه الدعوة المشتركة الكبرى، تندرج الدعوة الخاصة التي يوجّهها الله إلينا، فهو ينفد إلى حياتنا بحبّه ويوجّهها إلى هدفها النهائي، إلى الامتلاء الذي يتجاوز حتى عتبة الموت. على هذا النحو أراد الله أن ينظر إلى حياتنا وهو ما زال ينظر إليها.

تُنسب إلى مايكل أنجلو بوناروتي الكلمات التالية: "كلّ صخرة في داخلها تمثال، ومهمّة النحات هي أن يكتشفه". إذا كانت هذه نظرة الفنان، فإنّ الله ينظر إلينا كذلك وأكثر من ذلك بكثير، فهو ينظر إلينا كما نظر إلى فتاة الناصرة فرأى فيها والدة الإله؛ وفي الصّياد سمعان بن يونا رأى بطرس، الصّخرة التي سيَبني عليها كنيسته؛ وفي العشار لاوي رأى الرّسول والإنجيلي متى؛ وفي شاؤول، الذي اضطهد المسيحيّين بشدّة، رأى بولس رسول الأمم. نظرة الله، نظرة حبّ، تصل إلينا دائمًا، وتَمَسُّنا، وتحرّرنا، وتغيّرنا، وتجعلنا أشخاصًا جددًا.

هذه هي دينامية كلّ دعوة: نَظَرُ الله يقع علينا فيدعونا. فالدعوة، مثل القداسة، ليست أمرًا استثنائيًّا مقصورًا على عدد قليل من الناس. كما توجد القداسة في كلّ جارٍ لي، (راجع الإرشاد الرسولي، اِفَرحوا وابتَهِجوا، 6-9)، كذلك الدعوة هي أيضًا للجميع، لأن الله ينظر إلى الجميع ويدعو الجميع.

يقول مَثَلٌ من الشّرق الأقصى: "الرجل الحكيم، ينظر إلى البيضة، فيعرف أن يرى فيها نسرًا؛ وينظر الى البذرة ويرى فيها شجرة كبيرة؛ وينظر إلى الخاطئ فيعرف أن يرى فيه قديسًا". هذه هي الطريقة التي ينظر بها الله إلينا: في كلّ واحدٍ منا الله يرى إمكانات، وقد تكون أحيانًا غير معروفة لنا أنفسنا، ويعمل طوال حياتنا بلا كلل حتى نستطيع أن نضعها في خدمة الخير العام.

هكذا تُولَد الدعوة، بفضل فن النحات الإلهيّ الذي يجعلنا ”بيديه“ نخرج من أنفسنا، لأنّه ينحت فينا التحفة التي نحن مدعوون لأن نكونها. كلمة الله، خاصة، التي تحرّرنا من التمركّز حول الذات، قادرة على أن تطهرنا وتنيرنا وتخلقنا من جديد. فلنصغ إذن إلى الكلمة، حتى نفتح أنفسنا على الدعوة التي يريدها الله لنا! ولنتعلّم أيضًا أن نصغي إلى إخوتنا وأخواتنا في الإيمان، لأنّه في نصائحهم وفي مثالهم يمكن أن تختفي مبادرة الله، التي تدلنا على طرقٍ جديدة لنسلكها.

 

مدعوّون إلى أن نجيب على نظرة الله

وصلت إلينا نظرة الله المُحبّة والخَلّاقَة بطريقة فريدة في يسوع. قال مرقس الإنجيليّ، في كلامه عن الشّاب الغنيّ: "فحَدَّقَ إِليهِ يسوع فأَحبَّه" (10، 21). نظرة يسوع هذه المليئة بالمحبّة تقف عند كلّ واحدٍ منّا. أيّها الإخوة والأخوات، لندع هذه النظرة تؤثّر فينا ولندع يسوع يحملنا إلى أبعد من أنفسنا! ولنتعلّم أن ننظر أيضًا بعضنا إلى بعض، حتّى يشعر الأشخاص الذين نعيش معهم ونلتقي بهم - أيًّا كانوا – بأنّه مُرحَّب بهم ويكتشفون أنّ هناك أحدًا ينظر إليهم بمحبّة ويدعوهم إلى تطوير كلّ إمكانيّاتهم.

تتغيّر حياتنا عندما نستقبل هذه النظرة. كلّ شيء يصبح حوارًا عن الدّعوة، بيننا وبين الرّبّ يسوع، وأيضًا بيننا وبين الآخرين. وهو حوارٌ إذا عشناه بعمق، يجعلنا نصبح أكثر فأكثر ما نحن عليه: في الدّعوة إلى الكهنوت، لكي نكون أداة لنعمة المسيح ورحمته، في الدّعوة إلى الحياة المكرّسة، لكي نكون حمدًا لله ونبوءة بإنسانيّة جديدة، في الدّعوة إلى الزّواج، لكي نكون عطيّة متبادلة ووالدين ومربّين للحياة. وبشكل عام، في كلّ دعوة وخدمة في الكنيسة، التي تدعونا إلى أن ننظر إلى الآخرين وإلى العالم بأعين الله، لخدمة الخير ونشر المحبّة، بالأعمال والكلام.

في هذا الصّدد، أودّ هنا أن أشير إلى خبرة الدّكتور خوسيه جريجوريو هيرنانديز سينسيروس. بينما كان يعمل طبيبًا في كاراكاس في فنزويلا، أراد أن يصبح فرنسيسكانيًّا في الرّهبنة الثّالثة. بعدئذٍ، فكّر في أن يصبح راهبًا وكاهنًا، لكن حالته الصحيّة لم تسمح له بذلك. فَهِمَ حين ذلك أنّ دعوته كانت بالتّحديد مهنة الطّبّ، التي فيها أمضى حياته خصوصًا من أجل الفقراء. فكرّس نفسه، من دون تحفّظ، للمرضى المصابين بوباء أنفلونزا المُسمّى ”الإسبانية“، الذي انتشر في ذلك الوقت في جميع أنحاء العالم. توفّي بحادث اصطدام سيّارة، وهو خارج من الصيدليّة حيث كان يشتري دواء لإحدى المريضات، كبيرة في السّن كان يعالجها. إنّه شاهدٌ مثالي لما يعنيه أن نقبل دعوة الرّبّ يسوع ونلتزم بها التزامًا كاملًا. أُعلِنَ تطويبه قبل سنة.

 

مدعوّون إلى المشاركة لكي نبني عالمًا أخويًّا

بكوننا مسيحيّين، لسنا مدعوّين فقط، أي لسنا مدعوّين إلى دعوة خاصة بنا فقط، بل نحن أيضًا مدعوّون معًا، مع غيرنا. نحن مثل قطع الفسيفساء، كلّ قطعة وحدها جميلة، لكنّها فقط إن جُمعت معًا تشكّل صورة. كلّ واحدٍ منّا يشع مثل نجمة في قلب الله وفي سماء الكون، لكنّنا مدعوّون لأن نشكّل مجموعات من الكواكب توجّه وتضيء طريق البشريّة، بدءًا من البيئة التي نعيش فيها. هذا هو سرّ الكنيسة: في عيش الاختلافات، هي علامة وأداة لما تُدعَى إليه البشريّة كلّها. لهذا يجب على الكنيسة أن تصبح دائمًا أكثر سينوديّة، قادرة أن تسير معًا في انسجام وتنوّع، فيه يكون للجميع مساهمتهم الخاصّة، ويمكنهم المشاركة فيه بفعاليّة.

عندما نتكلّم على ”الدّعوة“، فالأمر ليس فقط مسألة اختيار هذا الشّكل أو ذاك من الحياة، فنخصّص حياتنا لخدمة معيّنة، أو نتبع جاذبيّة شخصيّة عائلة دينيّة أو حركة أو جماعة كنسيّة، بل المسألة هي تحقيق حلم الله، خطّة الأخوّة الكبيرة التي كان يسوع يحملها في قلبه عندما صلّى إلى الآب قائلًا: "لِيكونوا بِأَجمَعِهم واحِدًا" (يوحنّا 17، 21). كلّ دعوة في الكنيسة، وبمعنى أوسع أيضًا في المجتمع، تساهم في تحقيق هدف مشترك وهو: أن تجعل هذا التّناغم بين العطايا العديدة والمختلفة الذي لا يستطيع أن يحقّقه إلّا الرّوح القدس يتردّد صداه بين الرّجال والنّساء. الكهنة، والمكرّسين والمكرّسات، والمؤمنين العلمانيّين، لِنَسِر ولنَعمَل معًا، لكي نشهد أنّ أسرة بشريّة كبيرة متّحدة في المحبّة ليست خيالًا، يوتوبيا، بل هي المشروع الذي من أجله خلقنا الله.

لنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، حتّى يزداد شعب الله دائمًا استجابة لهذه الدّعوة، في وسط أحداث التّاريخ المأساويّة. لنبتهل إلى نور الرّوح القدس، حتّى يستطيع كلّ واحدٍ منّا أن يجد مكانه الخاص ويعطي أفضل ما عنده في هذا المخطّط الكبير!

 

أُعطيَ في روما، في بازيليكا القدّيس يوحنا في اللاتران، يوم 8 أيار/مايو 2022، في الأحد الرابع للفصح.

    

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2022



Copyright © Dicastero per la Comunicazione - Libreria Editrice Vaticana